الزائر إلى لندن هذه الأيام، يصاب بالحيرة من كم المحلات الراقية، والمناطق التي عليه زيارتها لاكتشاف ما تقدمه من جديد.
ففي كل منطقة، يوجد شارع تتفرع عنه شوارع وأزقة يحتضن كل منها كنوزا بتوقيع كبار المصممين من أمثال جيورجيو أرماني، غوتشي، كالفين كلاين، رالف لوران وهلم جرا.
لكن من زار لندن في الستينات، يعرف مدى حجم التغيير الذي طرأ على خريطة التسوق فيها.
فقبل السبعينات من القرن الماضي، لم تكن منطقة «مايفير» معروفة بمحلاتها الأنيقة، ولا «نوتينهيل» بإيقاعها الحيوي والشاب، ولا حتى «نايتسبريدج» باستثناء «هارودز» وإن كان بدوره يخاطب شريحة معينة من الزبائن.
ففي الستينات والسبعينات، كانت هناك وجهة واحدة لمن يريد موضة عصرية تواكب إيقاعات التطور والتجديد، هي «كينغز رود». كل هذا تغير في بداية السبعينات، وبالتحديد في 1970، العام الذي شهد ولادة أسطورة موضة شبابية هي محل «براونز».
لم يكن المحل عاديا بقدر ما كان عالما مصغرا للموضة، وبالنسبة للعديد من المعجبين كان بمثابة واحة في وقت لم يوجد فيه أي محل لمصمم عالمي سوى محل إيف سان لوران، مما كان يستدعي السفر إلى باريس أو ميلانو أو نيويورك للحصول على قطع بتوقيع كبار المصممين، أو التعرف على الجدد منهم. جاء «براونز» فغير ثقافة التسوق وصورة الموضة في لندن، وأكد أنه بمثابة عش تستكين فيه أسماء ثم تطير منه للعالمية، هذا عدا ما تولد فيه من أفكار مستقبلية مؤثرة على الساحة.
من البداية احتضن ماركات وأسماء مهمة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ألكسندر ماكوين، عز الدين علايا، ميسوني، جيورجيو أرماني، روميو جيلي، جيل ساندر، كريزيا، كوم دي غارسون، دونا كاران وغيرهم، قبل أن يصبح لكل منهم محلات خاصة ومستقلة.
وهكذا أصبح «ساوث مولتون ستريت، بلندن دبليو1» وجهة الأنيقات بلا منازع، والعنوان الذي تنطلق منه شرارة اتجاهات الموضة القادمة، والفضل يعود إلى امرأة واحدة.
هذه المرأة هي جون بيرنشتاين، سيدة تعدت الثمانين من العمر الآن لكن ما زالت أوساط الموضة تدللها بلقب السيدة بي (مسز بي)، ولم تفقدها السنين حماسها ولا شغفها بالجديد، فهي لا تزال ثاقبة النظر عندما يتعلق الأمر باكتشاف المواهب، وطرح المتميز في محلاتها، التي تفرعت وتوسعت.
قد نبالغ إن قلنا إنها في أهمية المصممين الذين تقدمهم للعالم، لكن المؤكد أن تأثيرها على ساحة الموضة لا نقاش فيه.
فهي تجمع بين الذوق الفني وبين الحس التجاري، ويمكنها أن تشم موهبة صاعدة من بعيد، ولا تتوانى أن تقدم لها يد العون أو تستعين بها للحصول على المزيد من البريق لمحلها، وليس أدل على هذا أنها أول من قدم أزياء ماركة «كوم دي غارسون» المبتكرة.
ولا تزال أوساط الموضة تذكر أيضا كيف أنها تواجدت في حفل كان المصمم كالفن كلاين، حاضرا فيه، فتوجهت إليه وبطريقة مباشرة قالت له، إنها تريد بيع تصميماته في محلها، كما تذكر الأوساط نفسها أنها هي التي قدمت الموضة البرازيلية، من خلال كارلوس مييل، إلى لندن وأوروبا، وهلم جرا من الأسماء التي لا تزال تدين لها بالامتنان.
تربت السيدة بي، في أسرة لها علاقة بالموضة، فوالدتها كانت تساعد خالها الذي كان يعمل في صناعة السجاد، وخالتاها كانتا أيضا تعملان في الخياطة، إلا أن نقطة التحول في حياتها كانت في عام 1944 عندما التقت بزوجها، سيدني بيرشتاين، وتزوجته في عام 1946.
كان هذا أيضا العام نفسه الذي أسست فيه جون أول لبنة في إمبراطوريتها، بشرق لندن، وبالتحديد في سوق ريدلي رود الشعبي المفتوح، حيث كانا يبيعان الموضة من خلال كشك صغير.
ولم تمر أربع سنوات حتى افتتح الزوجان مجموعة من المحلات في «اكسفورد ستريت، ريجنت ستريت، وبرومبتون رود»، لكن الحظ لم يحالفهما واضطرا لإغلاقها كلها وإعلان إفلاسهما.
بالنسبة لجون لم تكن التجربة قاضية ولم تعتبرها نهاية أحلامها بل العكس تماما، تعاملت معها على أنها بداية جديدة.
أعادت ترتيب أوراقها وهي موقنة أن الحل الوحيد أمامها هو الصعود ثانية، وهكذا جاءت ولادة «براونز» من رماد أججته رغبة في النجاح والاستمرار.
وكما تقول جون، فقد «كان الإفلاس بداية الحظ». طبعا محل مثل «براونز»، كان لا بد أن يبدأ صغيرا قبل أن يكبر وتتغير ملامحه، وبالتالي كانت البداية محلا باسم «فيذرز» يقع في «هاي ستريت كينغستون»، عمل فيه كبائع، مانولو بلانيك، الذي أصبح أحد أهم مصممي الأحذية حاليا. نجحت التجربة ونتج عن النجاح رغبة في التوسع، وعندما سمع صديقها مصفف الشعر فيدال ساسون، بهذه الرغبة، اقترح عليها استعمال واجهة محله الواقع بـ«سلون ستريت».
وفي عام 1970 اشترى الزوجان رقم 27 ساوث مولتون ستريت من الأرستقراطي، سير ويليام بيغوت براون، ومنه استوحيا اسم المحل.
بدأت السيدة بي فيه بيع ماركة ميسوني، سونيا ريكييل، أوسي كلارك، ومع كل نجاح تجاري كان هناك توسع جغرافي، فقد أصبحت «براونز» تشمل أرقام، 25 ثم 23 و26 و24.
وبعد فترة اشتريا محلا خاصا بهما في «سلون ستريت» وافتتحا محلا خاصا بمنتجات «رالف لوران» في «نيو بوند ستريت»، وطرحا خطا رجاليا خاصا بهما إلى جانب كل ما يتعلق بالديكور الداخلي.
وأخيرا وليس آخرا محلا خاصا للأحذية بتوقيع كل من لوبوتان، كلوي، بالنسياجا، عز الذين علايا، مارني، لانفان، دريز فان نوتن، مارتن مارجيلا، نيكولا كيركوود، روبرت ساندرسن، والبقية تأتي.
ولا شك أن المتابع لمسيرة هذه السيدة التي تبدو اليوم ضعيفة وكبيرة في السن، لا ينتابه أدنى شك بأنها لا تزال تتمتع بحسها الفني وبقوة أنفها الذي يشم الموهبة عن بعد، وإن كانت هذه ليست ميزاتها الوحيدة، لأننا يجب أن نحسب ميزة أهم وهي شجاعتها وعدم خوفها من خوض المجهول.
فإلى جانب «كوم دي غارسون» كانت أول من عرض مجموعة جون غاليانو «ليزانكروايابلز» الثورية التي قدمها في حفل تخرجه، ولم يتجرأ أي أحد أن يفكر مجرد التفكير في إمكانية تسويقها، كما كانت أول من اكتشف عز الدين علايا، ولبست له قبل أن يحترف التصميم.
هذه الشجاعة والقدرة على المجازفة، فضلا عن النظرة التي تخترق المتعارف عليه وتتجاوزه، هي التي تميز «براونز» عن بقية المحلات الكبيرة، وتجعله معلما من معالم خريطة لندن التسوقية، على الرغم من مرور حوالي أربعة عقود على تأسيسه.
والآن وبعد أن دخلت أجيال شابة من العائلة في عملية التوسع، منهم أبناؤها وأحفادها، جاء دخول عالم الإنترنت طبيعيا ومتماشيا مع روح العصر الجديد، وهكذا تأسس موقع www.brownsfashion.com الذي كانت الفكرة منه أن يخاطب من لا صبر له أو جلد على البحث والتسوق لساعات، أو على الأقل أخذ فكرة مسبقة قبل التوجه إليه.